تهافت الفلاسفة
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في مقدمة كتابه تهافت الفلاسفة مبينا السبب الذي دفعه إلى تأليف هذا الكتاب في تلك الفترة : ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب أنني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب و النظراء بمزيد الفطنة و الذكاء، و قد رفضوا وظائف الإسلام، واستحقروا شعائر الدين ، واستهانوا بتعبدات الشرع و حدوده ، بفنون من الظنون ، يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا ، و لا مستند لضلالهم إلا تقليد سماعي ، إذ جرى على غير تعاليم الإسلام نشأهم و أولادهم ، و عليه درج آباؤهم ، و غير بحث نظري، صادر عن التعثر بأذيال الشبه ، الصارفة عن صوب الصواب ، و الانخداع بالخيالات المزخرفة كلامع السراب
و إنما مصدر ضلالهم سماعهم أسماء هائلة ، كسقراط و بقراط و أفلاطون و أرسطو و أمثالهم ، فلما قرع ذلك سمعهم تجملوا باعتقاد الضلال ، تحيزا إلى غمار الفضلاء بزعمهم ، و انخراطا في سلكهم ، و ترفعا عن مسايرة الجماهير و الدهماء ، ظنا بأن إظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال ، غفلة منهم عن أن الانتقال إلى تقليد عن تقليد خرق و خبال ، فأي رتبة في عالم الله أخس من رتبة من يتجمل بترك الحق المعتقد تقليدا بالتسارع إلى قبول الباطل تصديقا دون أن يقبله خبرا و تحقيقا
مع العلم أن البله من العوام بمعزل عن هذه الهاوية ، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوي الضلالات ، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء ، و العمى أقرب إلى السلامة من بصيرة حولاء
عندما قرأت هذه الديباجة أكثر من مرة ، مقلبا النظر بألفاظها ، و ممعنا الفكر في معانيها ، خلصت إلى حقيقة تقضي أن في هذه القطعة الأدبية الرائعة الجواب الكافي لمن بحث عن السؤال الشافي ، فهي مقدمة كتاب تستحق أن تكون مرجعا لكل كتاب ، و أسلوبا علميا أدبيا يصلح لأن يعمل على تحليل كل سلوك منحرف و تعليل كل فكر معوج ، خرج عن المألوف و دخل في الوهم و المجهول ، فكل كلمة جاءت بدلالة ، و كل عبارة أدلت بفكرة و إشارة ، إلا أن هنالك ثمة كلمات اشتملت عليها هذه المقدمة عملت كتروس ميكانيكية ناقلة لروح الحركة بين سطورها ، و التي بدورها تعالج شريحة من الناس تقبع بداخلها جملة أمراض نفسية ، وفق الكاتب بما أوتي من علم و بصيرة أن يشخصها أيما تشخيص بكلمات غاية الإعجاز في الإيجاز ، و نهاية التمام في الوضوح و البيان. وسوف أسلط الضوء على مجموعة الكلمات التي ارتكزت عليها هذه المقدمة ، فمن هذه الكلمات كلمة التقليد التي وردت في أكثر من جملة ، فالتقليد هو الدافع و هو الحافز و هو المحرض و هو القائد لهذه الفصيلة من البشر ، و لقد وصفه الكاتب بأنه تقليد سماعي ، تماما كقول المولى عز و جل : ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء ، و هو التقليد عينه الذي حذرنا منه نبينا الكريم بقوله : لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، أي أنه تقليد أعمى يخلو من الفائدة و يفتقر إلى المضمون... الكلمة الثانية كلمة التكايس ، و شتان بين الكياسة و التكايس ، و لو أن كل إنسان رضي بما قسمه الله له من عقل لما دخلنا في مغبة هذه الآفة التي لا تنتهي بطالبها إلا إلى درجات أحط و أسفل في الحمق و الغباء ، فالمتكايس يُضيع النزر اليسير الذي قد أمن الله به عليه من عقل في ركوب أمور هو غير مهيأ لها أساسا من الناحية العقلية ، و مصداق هذا قول الشاعر :لا يعظ الناس من لا يعظ الدهر .... و لا ينفع التلبيب ... الكلمة الثالثة والأخيرة هي كلمة الترفع ، الترفع عن الدهماء و الانخراط في سلك الفضلاء، فالإنسان بطبيعته دؤوب في طلب التميز... تواق إلى التفرد بنمط فكري و شخصي ينأ به عمن حوله، و ما أن يجد الوسيلة التي تعينه على الخلاص من الأشباه و الأمثال حتى يسارع إلى الانسلاخ منهم و يركن إلى أولائك الذين يراهم بمنظوره المتواضع و المحدود من علية القوم و كبرائهم
و في كل مرة أعاود فيها قراءة هذه المقدمة تتفتح لي آفاق جديدة و تتجلى أمامي حقائق مثيرة أُثبتت بالبينات النواصع و أكدت بالبراهين السواطع من خلال الرابط الذي برز بين النص و الواقع المعاصر ، و تغدو لي هذه المقدمة و كأنها بحر لا يسبر غوره و لا ينال دركه في التحليلات و الإسقاطات الإجتماعية و النفسية ، و مفصل هذه المقدمة بنظري يكمن في عبارة " أن الظن بإظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال" ، فهؤلاء الذين زعموا أنهم من التقليد فروا تراهم في التقليد وقعوا ، فيا ليتهم ابتدعوا كفرا محليا من عنديتهم حتى نجد لهم عذرا في ادعائهم أنهم أعداء التقليد و أنصار العقل و التحقيق، و لكن الحقيقة تُفصح عن غير ذلك، فتقليدهم العشوائي وانباهرهم الغوغائي بغيرهم من الأمم ما هو إلا التفسير الوحيد عن عجز عقولهم في فهم واستيعاب دينهم الموروث بالدرجة الأولى، و سقوطهم في شرك التقليد لهو الآية الظاهرة و العلامة الدامغة لفشل عقولهم في عرض و تمحيص ماهية دينهم التي دقت عقولهم عن عمق طرحه و عميق فكرته
و إنما مصدر ضلالهم سماعهم أسماء هائلة ، كسقراط و بقراط و أفلاطون و أرسطو و أمثالهم ، فلما قرع ذلك سمعهم تجملوا باعتقاد الضلال ، تحيزا إلى غمار الفضلاء بزعمهم ، و انخراطا في سلكهم ، و ترفعا عن مسايرة الجماهير و الدهماء ، ظنا بأن إظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال ، غفلة منهم عن أن الانتقال إلى تقليد عن تقليد خرق و خبال ، فأي رتبة في عالم الله أخس من رتبة من يتجمل بترك الحق المعتقد تقليدا بالتسارع إلى قبول الباطل تصديقا دون أن يقبله خبرا و تحقيقا
مع العلم أن البله من العوام بمعزل عن هذه الهاوية ، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوي الضلالات ، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء ، و العمى أقرب إلى السلامة من بصيرة حولاء
عندما قرأت هذه الديباجة أكثر من مرة ، مقلبا النظر بألفاظها ، و ممعنا الفكر في معانيها ، خلصت إلى حقيقة تقضي أن في هذه القطعة الأدبية الرائعة الجواب الكافي لمن بحث عن السؤال الشافي ، فهي مقدمة كتاب تستحق أن تكون مرجعا لكل كتاب ، و أسلوبا علميا أدبيا يصلح لأن يعمل على تحليل كل سلوك منحرف و تعليل كل فكر معوج ، خرج عن المألوف و دخل في الوهم و المجهول ، فكل كلمة جاءت بدلالة ، و كل عبارة أدلت بفكرة و إشارة ، إلا أن هنالك ثمة كلمات اشتملت عليها هذه المقدمة عملت كتروس ميكانيكية ناقلة لروح الحركة بين سطورها ، و التي بدورها تعالج شريحة من الناس تقبع بداخلها جملة أمراض نفسية ، وفق الكاتب بما أوتي من علم و بصيرة أن يشخصها أيما تشخيص بكلمات غاية الإعجاز في الإيجاز ، و نهاية التمام في الوضوح و البيان. وسوف أسلط الضوء على مجموعة الكلمات التي ارتكزت عليها هذه المقدمة ، فمن هذه الكلمات كلمة التقليد التي وردت في أكثر من جملة ، فالتقليد هو الدافع و هو الحافز و هو المحرض و هو القائد لهذه الفصيلة من البشر ، و لقد وصفه الكاتب بأنه تقليد سماعي ، تماما كقول المولى عز و جل : ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء ، و هو التقليد عينه الذي حذرنا منه نبينا الكريم بقوله : لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، أي أنه تقليد أعمى يخلو من الفائدة و يفتقر إلى المضمون... الكلمة الثانية كلمة التكايس ، و شتان بين الكياسة و التكايس ، و لو أن كل إنسان رضي بما قسمه الله له من عقل لما دخلنا في مغبة هذه الآفة التي لا تنتهي بطالبها إلا إلى درجات أحط و أسفل في الحمق و الغباء ، فالمتكايس يُضيع النزر اليسير الذي قد أمن الله به عليه من عقل في ركوب أمور هو غير مهيأ لها أساسا من الناحية العقلية ، و مصداق هذا قول الشاعر :لا يعظ الناس من لا يعظ الدهر .... و لا ينفع التلبيب ... الكلمة الثالثة والأخيرة هي كلمة الترفع ، الترفع عن الدهماء و الانخراط في سلك الفضلاء، فالإنسان بطبيعته دؤوب في طلب التميز... تواق إلى التفرد بنمط فكري و شخصي ينأ به عمن حوله، و ما أن يجد الوسيلة التي تعينه على الخلاص من الأشباه و الأمثال حتى يسارع إلى الانسلاخ منهم و يركن إلى أولائك الذين يراهم بمنظوره المتواضع و المحدود من علية القوم و كبرائهم
و في كل مرة أعاود فيها قراءة هذه المقدمة تتفتح لي آفاق جديدة و تتجلى أمامي حقائق مثيرة أُثبتت بالبينات النواصع و أكدت بالبراهين السواطع من خلال الرابط الذي برز بين النص و الواقع المعاصر ، و تغدو لي هذه المقدمة و كأنها بحر لا يسبر غوره و لا ينال دركه في التحليلات و الإسقاطات الإجتماعية و النفسية ، و مفصل هذه المقدمة بنظري يكمن في عبارة " أن الظن بإظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال" ، فهؤلاء الذين زعموا أنهم من التقليد فروا تراهم في التقليد وقعوا ، فيا ليتهم ابتدعوا كفرا محليا من عنديتهم حتى نجد لهم عذرا في ادعائهم أنهم أعداء التقليد و أنصار العقل و التحقيق، و لكن الحقيقة تُفصح عن غير ذلك، فتقليدهم العشوائي وانباهرهم الغوغائي بغيرهم من الأمم ما هو إلا التفسير الوحيد عن عجز عقولهم في فهم واستيعاب دينهم الموروث بالدرجة الأولى، و سقوطهم في شرك التقليد لهو الآية الظاهرة و العلامة الدامغة لفشل عقولهم في عرض و تمحيص ماهية دينهم التي دقت عقولهم عن عمق طرحه و عميق فكرته
إلا أن الفقرة الأخيرة من المقدمة لم تعد تنطبق على مجتمعات المسلمين اليوم ، فمن الجدير بالذكر أن كتاب تهافت الفلاسفة في وقته ضرب الفلسفة التي استشرت في أرجاء المجتمع المسلم ضربة لم تقم لها من بعده قائمة ، لأنه في حينه كان موجها إلى فئة العلماء من المسلمين من الذين تأثروا بفلاسفة الغرب أمثال الفارابي و ابن سينا ، فدارت بينهم رحى الكلام إلى أن بلغت منهم الحجة المخنق و وضح الصبح لذي عينين، بما عرضه عليهم الغزالي من أسلوب جدلي لائح الرسوم ظاهر الدليل ، فأبكمت أفواههم و قُصمت ظهورهم ، و ذلك أن الإمام الشافعي يقول : لو ناقشت عالما لغلبته و لو ناقشت جاهلا لغلبني ، فالعالم إن لم يسكت مقتنعا فإنه لا محالة سيسكت مُفحما ، في حين أن الجاهل يسترسل بالنقاش و يُسهب بالجدال إلى قيام الساعة ، فالبراءة التي اختص بها أبو حامد العامة في ذلك الحين سقطت عن عامة اليوم لأنهم أخذوا دور العلماء في القراءة و الاطلاع ، و في ركوب المنابر واعتلاء المنصات ، فنحن في زمن ما عاد ينفع به لا تهافت الفلاسفة و لا أبو حامد الغزالي بحججه و علمه ، و إنما يصلح له فقط قول علي بن أبي طالب : أفضل العبادة الصمت و انتظار الفرج