Saturday, February 25, 2006

تهافت الفلاسفة

يقول الإمام أبو حامد الغزالي في مقدمة كتابه تهافت الفلاسفة مبينا السبب الذي دفعه إلى تأليف هذا الكتاب في تلك الفترة : ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب أنني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب و النظراء بمزيد الفطنة و الذكاء، و قد رفضوا وظائف الإسلام، واستحقروا شعائر الدين ، واستهانوا بتعبدات الشرع و حدوده ، بفنون من الظنون ، يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا ، و لا مستند لضلالهم إلا تقليد سماعي ، إذ جرى على غير تعاليم الإسلام نشأهم و أولادهم ، و عليه درج آباؤهم ، و غير بحث نظري، صادر عن التعثر بأذيال الشبه ، الصارفة عن صوب الصواب ، و الانخداع بالخيالات المزخرفة كلامع السراب

و إنما مصدر ضلالهم سماعهم أسماء هائلة ، كسقراط و بقراط و أفلاطون و أرسطو و أمثالهم ، فلما قرع ذلك سمعهم تجملوا باعتقاد الضلال ، تحيزا إلى غمار الفضلاء بزعمهم ، و انخراطا في سلكهم ، و ترفعا عن مسايرة الجماهير و الدهماء ، ظنا بأن إظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال ، غفلة منهم عن أن الانتقال إلى تقليد عن تقليد خرق و خبال ، فأي رتبة في عالم الله أخس من رتبة من يتجمل بترك الحق المعتقد تقليدا بالتسارع إلى قبول الباطل تصديقا دون أن يقبله خبرا و تحقيقا

مع العلم أن البله من العوام بمعزل عن هذه الهاوية ، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوي الضلالات ، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء ، و العمى أقرب إلى السلامة من بصيرة حولاء

عندما قرأت هذه الديباجة أكثر من مرة ، مقلبا النظر بألفاظها ، و ممعنا الفكر في معانيها ، خلصت إلى حقيقة تقضي أن في هذه القطعة الأدبية الرائعة الجواب الكافي لمن بحث عن السؤال الشافي ، فهي مقدمة كتاب تستحق أن تكون مرجعا لكل كتاب ، و أسلوبا علميا أدبيا يصلح لأن يعمل على تحليل كل سلوك منحرف و تعليل كل فكر معوج ، خرج عن المألوف و دخل في الوهم و المجهول ، فكل كلمة جاءت بدلالة ، و كل عبارة أدلت بفكرة و إشارة ، إلا أن هنالك ثمة كلمات اشتملت عليها هذه المقدمة عملت كتروس ميكانيكية ناقلة لروح الحركة بين سطورها ، و التي بدورها تعالج شريحة من الناس تقبع بداخلها جملة أمراض نفسية ، وفق الكاتب بما أوتي من علم و بصيرة أن يشخصها أيما تشخيص بكلمات غاية الإعجاز في الإيجاز ، و نهاية التمام في الوضوح و البيان. وسوف أسلط الضوء على مجموعة الكلمات التي ارتكزت عليها هذه المقدمة ، فمن هذه الكلمات كلمة التقليد التي وردت في أكثر من جملة ، فالتقليد هو الدافع و هو الحافز و هو المحرض و هو القائد لهذه الفصيلة من البشر ، و لقد وصفه الكاتب بأنه تقليد سماعي ، تماما كقول المولى عز و جل : ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء ، و هو التقليد عينه الذي حذرنا منه نبينا الكريم بقوله : لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، أي أنه تقليد أعمى يخلو من الفائدة و يفتقر إلى المضمون... الكلمة الثانية كلمة التكايس ، و شتان بين الكياسة و التكايس ، و لو أن كل إنسان رضي بما قسمه الله له من عقل لما دخلنا في مغبة هذه الآفة التي لا تنتهي بطالبها إلا إلى درجات أحط و أسفل في الحمق و الغباء ، فالمتكايس يُضيع النزر اليسير الذي قد أمن الله به عليه من عقل في ركوب أمور هو غير مهيأ لها أساسا من الناحية العقلية ، و مصداق هذا قول الشاعر :لا يعظ الناس من لا يعظ الدهر .... و لا ينفع التلبيب ... الكلمة الثالثة والأخيرة هي كلمة الترفع ، الترفع عن الدهماء و الانخراط في سلك الفضلاء، فالإنسان بطبيعته دؤوب في طلب التميز... تواق إلى التفرد بنمط فكري و شخصي ينأ به عمن حوله، و ما أن يجد الوسيلة التي تعينه على الخلاص من الأشباه و الأمثال حتى يسارع إلى الانسلاخ منهم و يركن إلى أولائك الذين يراهم بمنظوره المتواضع و المحدود من علية القوم و كبرائهم

و في كل مرة أعاود فيها قراءة هذه المقدمة تتفتح لي آفاق جديدة و تتجلى أمامي حقائق مثيرة أُثبتت بالبينات النواصع و أكدت بالبراهين السواطع من خلال الرابط الذي برز بين النص و الواقع المعاصر ، و تغدو لي هذه المقدمة و كأنها بحر لا يسبر غوره و لا ينال دركه في التحليلات و الإسقاطات الإجتماعية و النفسية ، و مفصل هذه المقدمة بنظري يكمن في عبارة " أن الظن بإظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال" ، فهؤلاء الذين زعموا أنهم من التقليد فروا تراهم في التقليد وقعوا ، فيا ليتهم ابتدعوا كفرا محليا من عنديتهم حتى نجد لهم عذرا في ادعائهم أنهم أعداء التقليد و أنصار العقل و التحقيق، و لكن الحقيقة تُفصح عن غير ذلك، فتقليدهم العشوائي وانباهرهم الغوغائي بغيرهم من الأمم ما هو إلا التفسير الوحيد عن عجز عقولهم في فهم واستيعاب دينهم الموروث بالدرجة الأولى، و سقوطهم في شرك التقليد لهو الآية الظاهرة و العلامة الدامغة لفشل عقولهم في عرض و تمحيص ماهية دينهم التي دقت عقولهم عن عمق طرحه و عميق فكرته

إلا أن الفقرة الأخيرة من المقدمة لم تعد تنطبق على مجتمعات المسلمين اليوم ، فمن الجدير بالذكر أن كتاب تهافت الفلاسفة في وقته ضرب الفلسفة التي استشرت في أرجاء المجتمع المسلم ضربة لم تقم لها من بعده قائمة ، لأنه في حينه كان موجها إلى فئة العلماء من المسلمين من الذين تأثروا بفلاسفة الغرب أمثال الفارابي و ابن سينا ، فدارت بينهم رحى الكلام إلى أن بلغت منهم الحجة المخنق و وضح الصبح لذي عينين، بما عرضه عليهم الغزالي من أسلوب جدلي لائح الرسوم ظاهر الدليل ، فأبكمت أفواههم و قُصمت ظهورهم ، و ذلك أن الإمام الشافعي يقول : لو ناقشت عالما لغلبته و لو ناقشت جاهلا لغلبني ، فالعالم إن لم يسكت مقتنعا فإنه لا محالة سيسكت مُفحما ، في حين أن الجاهل يسترسل بالنقاش و يُسهب بالجدال إلى قيام الساعة ، فالبراءة التي اختص بها أبو حامد العامة في ذلك الحين سقطت عن عامة اليوم لأنهم أخذوا دور العلماء في القراءة و الاطلاع ، و في ركوب المنابر واعتلاء المنصات ، فنحن في زمن ما عاد ينفع به لا تهافت الفلاسفة و لا أبو حامد الغزالي بحججه و علمه ، و إنما يصلح له فقط قول علي بن أبي طالب : أفضل العبادة الصمت و انتظار الفرج

7 Comments:

At 2:37 AM, Blogger توماس كراون said...

حقيقه موضوع رائع

جميل جميل ما عبرت عنه أتفق معك

 
At 3:03 PM, Blogger Eb9ara7a and his Wife said...

السلام عليكم
:)

كذلك هي كلماتك يا أخي
قطعة أدبية رائعة

تحياتي لك و لقلمك

 
At 8:26 AM, Blogger Eb9ara7a and his Wife said...

أخوي

غبت
عسى المانع خير

السلام عليكم
:)

 
At 2:59 AM, Blogger bojsoom said...

موضوع طيب تشكر عليه اخي الجاحظ :) ..

اخوك بوجسووم
WWW.BOJSOOM.NET

 
At 12:01 AM, Blogger Raed said...

رحم الله حجة الإسلام و جزاك خيراً على ما كتبت

 
At 1:40 AM, Blogger الجاحظ said...

توماس كراون

شكرا لك أخي الكريم

eb9ara7a

خير إنشاء الله ، بس شوية مشاغل لا أكثر ... شاكر لك اهتمامك

bojsoom

العفو .. و لي زيارة قربية إنشاء الله

Raed

و إياك إنشاء الله ... شكرا لمرورك

 
At 12:23 PM, Anonymous Anonymous said...

دردشة
شات مصرى
شات بنات
دردشة كتابية مصرية
شات بنات مصر
دردشة مصرية
بنت مصر
دردشة مصر
شات مصر
دليل دردشة بنت مصر،دليل مواقع بنت مصر،بنت مصر
دردشة شات الخليج،شات خليجى
دردشة بنات،شات بنات
دردشة الحب الرومانسية،دردشة الحب،شات الحب
دردشةعربية،شات عربى
دردشة صوتية،شات صوتى
دردشة كتابية،شات كتابى
دردشة مصرية ،شات مصرى،دردشة مصر،شات مصر

 

Post a Comment

<< Home